فكرت
بصديقي الروائي العراقي الكبير محمود سعيد وفترات سجنه في سجون صدام، وما
ذكر لي عن تلك الفترة من حياته بالإضافة إلى ما دونه في روايته "أنا الذي
رأى" والتي تحملك الى داخل جدران سجون العراق ومعتقلاتها، وتسمح لكل
بالتعرف على أفرادها ، تملأ مشامك برائحة البراز والعرق المعتق، تترك في
فمك طعم الدم اللزج، وتدفعك لأن تتحسس كتفك ومعصمك ومناطق أخرى من جسدك
لتتأكد بان الألم الذي انتابها فجأة ليس إلا من رسم قلمه المبدع.
حين
قرأت رسالة إبن السجين البهائي، وكانت رسالته قد وصلتني باللغة
الأنجليزية، تبددت فوارق اللغة، وبدت الكلمات مألوفة جدا، تشبه في تراكيبها
ما يكتبه لي صديقي العربي عن معاناته، وما كتبه محمود سعيد عن تجربته، وما
سطرته أقلام العديد من سجناء الرأي الذين عرفوا أبعاد الألم البشري في
زنازين الوطن. بدت كل هذه التجارب متصلة بذلك الحبل الخفي الذي يغذي
إنسانيتنا ويحرك أعمق درجات الوعي والشفافية فينا . صارت آلآم البهائي الذي
لا أعرفه شخصيا ولكنني انتمي له بالعقيدة والأصل إمتدادا لآلآم اصدقائي
العرب الذين انتمي لهم بالميلاد والثقافة. لم تعد الهوية عندي محور نقاش
عاطفي وفكري وانما توحدت في دائرة الألم التي تصقل خطوط إنسانيتنا. لذلك
قررت أن أدون اليوم. ربما لأتخلص من آلآمهم التي تكاد تخنقني، وربما
لأنقلكم معي إلى تجربة الإبن البهائي، لعلها تتصل في زاوية من زواياها
بتجربتكم
فإليكم نص خطابهأود
أن أشارككم ببعض الكلمات عن تجربتي الخاصة ومشاعري فيما يتعلق بوضع
البهائيين في إيران: عن عائلتي، عن أصدقائي، وعن نفسي. ما سأشارككم به هو
مشاعري وأفكاري، والإشكالات التي أواجهها كل يوم، كإيرني، كبهائي، كعضو من
أعضاء العائلة البشرية، وكفرد يقبع والده سجينا في أحد أسوء سجون العالم.
سجن أفين "[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]" في شمال طهران، على أعلى التلال، بزراديبه القابعة في جوف الأرض، وغرف تعذيبه، المحاطة بأسوار عالية بالغة السُمك.أتذكر
الوقت الذي كنت أعمل في مشروع بناية عالية مما منحني فرصة معاينة السجن عن
قُرب. فكلما ارتفعت البناية أكثر وأكثر، صار بإمكاني أن أحضى بمنظر أكثر
وضوحا لذلك المكان الرهيب. لهذا ما زلت أتذكر بوضوح الابعاد غير المنتطمة
التي ترسم حدود مبنى سجن أفين. هذه الصورة التي ترافقني حين أذهب للنوم،
وحين أنهض من النوم في الصباح، أحاول أن أتخيل أبي فيه. أعرف كيف يبدو. قبل
ثلاث سنوات، كان والدي في السجن وقت آخر بسبب عقيدته البهائية. عندما
حصلنا بعد إنتظار طويل على إجازة بزيارته، لم أستطيع أن أصدق أن الشخص الذي
يقف أمامي هو والدي. شاحب، ضعيف، بلحية طويلة، وشعر طويل، في ملابس السجن
الفضفاضة. حين أخذوه رأيته يعرج. الأن بامكاني أن أتخيل كيف يبدو، ولكن على
أن أضيف إلى تلك اللوحة كل ما أتذكره عن أصدقاءه. علي أن أستعمل مخيلتي
مثل برنامج التصوير الألكتروني لأضيف لحا لوجوه أصدقاءه الأربعة المبتسمة.
علي أن أجعلهم يبدون أكبر سنا، أكبر بعدة سنوات مقابل كل سنة أمضوها في
السجن. علي أن أتخيل عيونهم الفرحة مليئة بالحزن. تعبة من التحقيق المستمر
تحت الأضواء الساطعة المركزة. علي أن أتخيل ما يبدو عليه أبي وأصدقاءه
اليوم بعد تسعة أشهر من التحقيق المأساوي الذي يلازمه أبشع الالفاظ التي لم
تقع على مسامعهم من قبل وأكثرها إهانة. هل تعلمون بأن إتنين من المعتقلين
نساء. لا يمكنني أن أتخيل هاتان السيدتان تحت هذه الظروف. هذا ما يسمونه
"التعذيب الأبيض". تفقد الكلمات معناها. حين أسمع كلمة "أبيض" لم يعد الثلج
يخطر على بالي، أو حمامة السلام. التعذيب هو ما يخطر على بالي هذه الأيام
مرافقا لكلمة "أبيض". التعذيب الأبيض يعني كل مشاكل العظام التي يعاني منها
والدي من جراء فترة مكوثه في السجن، التعذيب الأبيض يعني ان "وحيد"، أحد
أصدقاء والدي الذي يبلغ الخامسة والثلاثين عاما يفقد بصره نتيجة الضغوط
التي أدت الى تحطيم أعصاب عينيه. التعذيب الأبيض يعني حرمان أم من قضاء
الوقت مع إبنتها المراهقة لشهور عديدة. لدي فقط بعض اللحظات لأخبركم عن أبي
وأصدقاءه، ولكن هذا نهج حياة أكبر أقلية غير مسلمة في إيران. هذه حياة أي
من ينتمي الى الجامعة البهائية والتي تتألف من أكثر من ثلائمائة ألف نسمة.
مجموعة محرومة من كل شيء. محرومة من حقوقها المدنية منذ لحظة الميلاد حتى
لحظة الموت. أفرادها محرومون من أن يمنحوا أية أسماء لها دلالة بهائية حين
يولدون. محرومون من أن يكون لهم يوما واحدا يسيرا في المدرسة دون ان يشار
لهم بالبنان وينحون جانبا، محرمون من التسجيل في المدارس حسب مؤهلاتهم
ومواهبهم، محرمون من التعليم العالي، محرمون من شهادات الزواج، محرمون ليس
فقط من الوظائف الحكومية ولكن من التوظيف في العديد من المؤسسات الخاصة
التي تخضع لضغوطات الحكومة. محرومون من إنشاء تجارتهم الخاصة دون أن تدرج
أسمائهم في لائحة حراس الثورة في اللائحة السوداء، محرومون من شواهد القبور
ليرتاحوا بسلام دون ان تهز جثثهم في توابيتها مرات عديدة في العام تحت
وطئة آلآت حفر الجمهورية الإسلامية. محرومون من انتخاباتهم الإدارية
ومؤسساتهم.كان أبي
وأصدقاءه سبعة أعضاء من أعضاء هذه الجامعة من افراد المجتمع العاديين،
والممتدة في كل نواحي إيران. كل ما كان مناط اليهم هو لم شمل هذه الجامعة.
منحهم الشعور بمجتمع له كرامته وهويته في غياب أية هيئات إدارية تمثل هذه
الجماعة والتي حرّمت وجودها قانونا الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهاهم
الآن يتهمون من قبل السلطات بإتهامات مفبركة باطلة. أذكر تسعة أشهر ماضية
تلت إقتحام منزل والديّ. كنت أكلم والدتي، واشعر بها ترتجف على الطرف الآخر
من الخط بينما كانت تخبرني عن ما دار بينها وبين أحد أفراد المخابرات.
كانت تحزم كنزة دافئة لوالدي بينما كانوا يأخذونه بعيدا، لكن المخبر رفض ان
يسمح له بأن يأخذ الرزمة قائلا لها: "لن يحتاج الى ملابس بعد اليوم، فقط
الأحياء يحتاجون للثياب"! مضى على حادثة سجن والدي تسعة اشهر. مضى أكثر من
تسعة أشهر وأنا أعمل على تكوين الصورة في مخيلتي، أتخيل أوضاع أبي. مرة
رسمته في الحبس الإنفرادي، ثم في غرف التحقيق. حاولت أن أتخيله جالسا على
كرسي خشبي لأكثر من عشرين ساعة يواجة إثنين من محققي المخابرات يعمي
بصيرتهم التعصب الديني الأعمى. نقلت والدي في لوحتي من الحبس الإنفرادي الى
الصالة العامة، ثم أعدته الى زنزانة صغيرة بلا سرير، دون أغطية كافية،
ينام على أرض الإسمنت البارد مع اصدقاءه الأربعة في شتاء طهران القارص.
والآن أعمل في زواية أخرى من هذه اللوحة الذهنية الشاسعة. أرسم محكمة،
لكنني لا أرى محام. من الراجح أنه لن يكون بامكانهم الاتصال بمحاميهم. هل
علي أن أرسم أبي وأصدقاءه عائدين إلى السجن بعد المحاكمة؟ هل لي أن أنقله
مرة أخرى بين جدران سجن إيفن في رسوماتي الخيالية ؟ من الحبس الإنفرادي،
إلى غرف التحقيق، الى مقاعد التعذيب، الى زنزانات أكبر مع أصدقاءه.حين
أنظر بإمعان إلى هذه الصورة المؤلمة، أرى هناك جزء آخر من هذا السجن
بأعمدة من الخشب او الحديد، ومخارج حديدية، وأدوات رفع تدار باليد، وآلات
رفع، وحبال مشنقة. يرفض عقلي أن يسمح لي بأن أنقل أبي واصدقاءه الى تلك
الزاوية من السجن.كتبها إبن أحد السجناء البهائيين بتاريخ 18 مايو 2008